الذكاء الاصطناعي والإبداع- شراكة لا منافسة

المؤلف: خالد الجارالله08.25.2025
الذكاء الاصطناعي والإبداع- شراكة لا منافسة

لطالما كانت الكتابة الإبداعية العلامة الفارقة الأولى التي تميز الوعي الإنساني، وانطلقت في مسيرة مديدة مليئة بالتحديات، بدأت بنقش الحروف على الصخور، وتجاوزت صعوبات التدوين التقليدي، حتى أطلت علينا في هذا العصر الذي تتشكل فيه الأفكار بمجرد لمسة سحرية، إنه واقع مفعم بالجمال والإمكانات اللامحدودة، وليس مجرد مستقبل يثير المخاوف.

فإن التطورات الكبيرة تبدأ بخطوات صغيرة، على سبيل المثال، قبل بضعة عقود فقط، عندما كنا نرغب في كتابة كلمة بسيطة مثل «خالد» على الآلة الكاتبة – التي كانت تعتبر قمة التطور في ذلك الوقت – كنا نحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد والتركيز الشديد، هذا يتطلب معرفة دقيقة بموضع كل حرف، والتعامل مع أربعة احتمالات مختلفة لشكل الحرف الواحد، سواء كان في بداية الكلمة أو وسطها أو نهايتها أو منفصلاً، وذلك تبعًا لموقعه المحدد في الكلمة.

لم تكن الكتابة مجرد عملية سريعة، بل كانت تتطلب جهدًا ذهنيًا وبدنيًا كبيرين، بالإضافة إلى صبر جم.

ثم ظهرت لوحة المفاتيح "الكيبورد" التي أحدثت ثورة في عالم الكتابة، حيث حررت الكتابة من القيود الميكانيكية المعقدة، فأصبح الحرف يتغير تلقائيًا وفقًا للحروف التي تسبقه وتليه، واليوم، لم نعد بحاجة حتى إلى كتابة الكلمة بأكملها، فالكلمة تتوقع نفسها، وتظهر الاقتراحات قبل أن نكمل كتابتها، والجملة تتضح معالمها قبل أن ننتهي منها، وحتى المعنى يكتمل في أذهاننا قبل أن ننطق به، وهذا ليس ضربًا من السحر، بل هو "الذكاء الاصطناعي" الذي يفهمنا إذا فهمناه نحن بدورنا.

إن "الذكاء الاصطناعي" ليس مجرد نقلة تقنية عابرة، بل هو تطور طبيعي لسلسلة طويلة من الإمكانات التي أبدعها الإنسان على مر العصور، فكل مرحلة من مراحل التطور البشري كانت تعتمد على أدوات معينة: بدءًا من المطرقة البدائية، وصولًا إلى الطابعة المتطورة، ثم معالجات النصوص الرقمية، وانتهاءً بالأنظمة الذكية التي لا تكتفي بفهم اللغة فحسب، بل تقوم بإنتاجها وتحليلها واقتراح التحسينات وإعادة صياغة النصوص وخلق المعاني الجديدة.

ولكن على الرغم من كل ذلك، فإن جوهر الإبداع الحقيقي يظل في يد الإنسان المبدع، فالذكاء الاصطناعي مهما بلغ من التقدم لا يمكنه أن يبدع من العدم، فهو لا يستطيع أن يُلهمنا، ولا أن يحلم أحلامًا وردية، ولا أن يشعر بالألم والمعاناة، ولا أن يكتب لأن فكرة معينة قد استقرت في أعماق قلبه.

بل هو بمثابة مرآة تعكس أفكارنا، ومحرك جبار يضاعف سرعتنا، وأداة متقنة تساعدنا في إنجاز المهام، تمامًا مثل الآلة الحاسبة وغيرها من الأدوات المشابهة!

إن الخوف من الذكاء الاصطناعي، أو ما يطلق عليه "فوبيا الآلة الذكية"، ينبع أساسًا من الشك في قدراتنا الذاتية، والخوف من المستقبل المجهول أكثر من الخوف من التقنية نفسها.

إنه الخوف الذي يتملك الموظف الذي لا يسعى إلى التعلم والتطور، والكاتب الذي لا يحاول تطوير أدواته الإبداعية، والشخص الكسول الذي توقف عند نقطة معينة في حياته ولم يحاول التقدم.

ولكن الحقيقة المؤكدة هي أن الذكاء الاصطناعي لا يستبعد المبدعين على وجه الخصوص، بل يعزز تأثيرهم ويثري قدراتهم ويبرز مواهبهم، ولكي يتحقق ذلك، يجب أن نمتلك مهارة فائقة في تصميم الأوامر والتعمق في توجيه الذكاء الاصطناعي، فما يستغرقه العقل البشري من ساعات لإنجازه، يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينجزه في دقائق معدودة، ويعيد ترتيبه وتنميقه واختباره في بيئات مختلفة.

في مجالات متنوعة مثل التحليل، والإحصاء، والرقمنة، والتنظيم، والتوجيه، وحتى التنبؤ بالمستقبل، أصبح الذكاء الاصطناعي عنصرًا أساسيًا لا يمكن تجاهله بأي حال من الأحوال.

ولكنه – على الرغم من كل هذه القدرات الهائلة – لا يزال بحاجة إلى الفكرة الأولية، وإلى الجملة الافتتاحية، وإلى المعنى العميق الذي ينبع من العقل البشري والإحساس الإبداعي المرهف..

وإذا كنا نرغب حقًا في الاستثمار الأمثل في الذكاء الاصطناعي، فعلينا أولاً وقبل كل شيء أن نستثمر في الذكاء البشري، فبدون عقل مبدع، لا قيمة لأعظم آلة في الوجود، ومن دون فكرة ملهمة، لا فائدة من أذكى خوارزمية على الإطلاق.

الذكاء الاصطناعي، في نهاية المطاف، ليس عدوًا لنا.

بل هو الامتداد التقني الطبيعي للكاتب المبدع، والمصمم المبتكر، والمفكر المتأمل، ولكل من أدرك أن الإبداع الحقيقي لا يمكن اختزاله في مجرد شفرة برمجية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة